فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



نعم، سيلقى المحسن الإحسان ويلقى المسيء الإساءة. وسيعلم أهل الكتاب الذين كابروا محمدا وكذبوا أتباعه أنهم كذبوا على الله وخاصموا رسالة كان ينبغي أن يتعاونوا معها ويستريحوا إليها.. وتكذيب الآخرة جريمة شاعت بين الأولين والآخرين. والناس في عالمنا المعاصر لا يلقون بالا للحديث عن الآخرة، ولا يبدون اهتماما إلا للحياة المحسوسة، وذاك ناشئ من جهلهم بالله وعبادتهم لأنفسهم. ولذلك كررت السورة شبهة منكري البعث، واستغرابهم لحديث الرسول عنه {وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد أفترى على الله كذبا أم به جنة بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد}. الدلالة على رجل يؤمن بالبعث ويحذر منه مدعاة للعجب! هذا منطق الكفر كما أبانته أوائل السورة، ثم تكرر مرة ثالثة في أواخرها {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم وقالوا ما هذا إلا إفك مفترى وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين}. وندع مؤقتا الاسترسال مع هذا الحوار لنذكر قصتين تتصلان به: الأولى قصة النبي داود الذي اشتغل بصناعات الحديد! إن التدين الجاهل يحسب التخفف في الدنيا أمارة على التقدم في الآخرة. وهذا فهم منكر؟ فإن الدخول إلى الإيمان يكون من باب العلم الحاذق، لا من باب القصور البليد. وهذا ما شرحته الآيات في قصة داود، وما نلفت إليه أنظار الأمم الغفيرة التي انتمت إلى الإسلام وعاشت تتسول الصناعات من خصومه، فكانت عارا على دينها... {ولقد آتينا داود منا فضلا يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد أن اعمل سابغات وقدر في السرد واعملوا صالحا إني بما تعملون بصير}. وداود جمع في سيرته بين عملين متباعدين: التغني بآلاء الله وأمجاده بصوت رخيم كانت الطيور ترجع صداه وتشارك في مزاميره، والمهارة في الصناعات العسكرية والمدنية التي تحول الحديد إلى سيوف ورماح ودروع وإلى أوان شتى من جفان وقدور..! إن الفقه في الدنيا جزء من العقل الذي يفقه الآخرة، ولن يستطيع نصرة الإيمان أبله ولا قاعد. وعندما تحول المسلمون إلى عالم ثالث أو رابع، نال منهم خصومهم، وأمسوا معزة لدينهم!
ويظهر أن التماثيل لم تكن محرمة في شريعة سليمان بن داود، ومن ثم صنعها. على أنها لما اتخذت أوثانا من دون الله حرم الإسلام نحتها. ونحن مع بقاء تحريمها لأن البشر نزاعون إلى الوثنية مهما كثرت علومهم، والأوثان في بعض الكنائس مزار للابتهال، ولذلك جرد الإنجيليون كنائسهم منها. ولقد كان داود وسليمان أنبياء ملوكا ما شغلتهم سلطة عن واجبات العبودية، ولذلك جاء في الآية {اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور}. تلك هي القصة الأولى في السورة. أما القصة الثانية فعن سبأ وذراريه: {لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور}. وسنذكر خبرهم إن شاء الله. آفة الأكثرين من الناس أنهم يحسبون الغنى دليل الرضوان الأعلى، وأن المال إذا قل عند آخرين فلأنهم ليسوا موضع القبول! ونسوا أن الله يختبر بالعطاء والحرمان: بالبأساء والضراء حينا، والنعماء والسراء حينا آخر.. وأن النجاح في هذا الاختبار يجيء من موقف المرء نفسه بإزاء ما يلقى من أقدار الله {ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون}. وقد سقطت سبأ في الامتحان عندما استهانت بنعمة الله وكفرتها {ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور}؟ {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار}؟ وعندما تزول النعمة تذهب الوحدة والصحة والأمنة، وتجيء أضداد هذه الأحوال وأصحابها لها أهل، وما نزل بهم عدل لأنهم {وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور}. وأبرزت سورة سبأ أن الساقطين في امتحان النعماء كثيرون،وأن أمما بطرت معيشتها، فكان أول ما فعلت: مخاصمة الوحي، ومعاداة الرسل، والزعم بأن ما لديهم يكفى ويشفى! {وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين}. وإذا كان المال فتنة الأمم الأولى، فقد بقى فتنة الأمم المعاصرة.
وبدل أن يحسن الواجدون التصرف فيما أوتوا، طغوا على الفقراء والضعفاء، فنشأت مذاهب اجتماعية تستأصل حق التملك، ونشبت الحروب بين شتى الطبقات. وعند التأمل، نجد العراك على الحطام الفاني، ونرى أن معالم الدين قد اختفت، وزادت الآفاق ظلمة، ونشأت فلسفات تعبد الحياة وتنسى الآخرة.. ولا نجاة إلا بالعودة إلى الدين الحق. {ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك وربك على كل شيء حفيظ}. وبعد هذه القصص والإفادة من سردها، استأنف النظم الكريم سرد شبهات الجاهليين للقضاء عليها. وهنا نرى لونا من أدب الجدال لا نظير له! يتنزل فيه عارض الحق إلى مستوى خصمه، ويناشده أن يعي وأن يقبل الصواب {قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين}. من الجدير بالعبادة: الرازق أم المرزوق؟ إن آلهتكم أحجار لا تعي! فكيف يلتمس لديها رزق؟ أحدنا يخطئ لا محالة! ترى من يكون؟ وبعد إرخاء العنان للخصم على هذا النحو، زاد المشركين تخجيلا عندما قال {قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم}. وجاء في هذه السورة حوار بين الرؤساء والأتباع، وهو حوار تكرر في سور كثيرة ليكشف العلاقة الرخيصة بين بعض الناس وبعض آخر. هناك من يحبون لص الناس حولهم، وخفق الأقدام وراءهم على نحو ما قال الشاعر: ترى الناس إن سرنا يسيرون حولنا وإن نحن أومأنا إلى الناس وقفوا وهناك من يعشق أن يكون ذيلا، ولا يحسن إلا الجري وراء الكبراء.. وتعمل عناصر الغنى والفقر والقوة والضعف عملها في إحكام الخطط التي ينفذها هؤلاء جميعا. وتلمح مثلا لذلك في علاقة السحرة بفرعون {فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين}. وقد تفرست في مسيرة الأحزاب المناوئة للإيمان قديما وحديثا. فوجدتها تتحرك على هذا المحور. إغراء الطمع ونداء الحاجة!
وتكشف السورة هنا هذه الخبايا في ذلك الخطاب المتبادل: {ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين}. ولكن الحوار لا يطول لأن خزنة جهنم تحسم الموقف!
وفي ختام السورة يأمر الله نبيه أن يكشف عن طبيعة الرسالة الإسلامية، وهو يجادل الكفار وينسف شبهاتهم {قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد}. إن التفكير الواعي العميق أساس هذه الرسالة، سواء فكر المرء وحده أم استعان بأصدقائه المهم أن يستيقظ العقل النائم فيرى آيات ربه في آفاق العالم الذي يعيش فيه، ومحمد عليه الصلاة والسلام مرسل الصيحة التي تنبه الفكر الخامل، وترشد الشعوب التائهة. وما فعل ذلك طلبا لجاه أو مال. إنه تحفل الغتت، وبذل نفسه دون رسالته وفاء للحق وفناء فيه. {قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله وهو على كل شيء شهيد}. إن الصادين عن الحق اليوم سوف يؤمنون به عندما تتحقق نذره، ويواجه المشركون ما ينكرون: {ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب}. أي لا يبذل جهد في القبض عليهم. {وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش من مكان بعيد} لقد آمنوا بعد فوات الأوان، وانتهاء الامتحان، وظهور النتائج... ولو عقلوا لعرفوا الله واتبعوا المرسلين!. اهـ.

.في رياض آيات السورة الكريمة:

.فصل في أسرار ترتيب السورة:

قال السيوطي:
سورة سبأ:
أقول: ظهر لي وجه اتصالها بما قبلها، وهو أن تلك لما ختمت بقوله: {ليُعذبَ اللَهُ المُنافقينَ والمُنافِقات والمُشركينَ والمُشرِكات ويتوب اللَهُ على المؤمنينَ والمؤمنات} افتتحت هذه بأن له ما في السموات وما في الأرض وهذا الوصف لائق بذلك الحكم، فإن الملك العام، والقدرة التامة، يقتضيان ذلك وخاتمة سورة الأحزاب: {وكانَ اللَهُ غَفورًا رَحيمًا} وفاصلة الآية الثانية من مطلع سبأ: {وهوَ الرحيم الغفور}. اهـ.

.تفسير الآيات (1- 2):

قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
لما ختمت سورة الأحزاب بأنه سبحانه عرض أداء الأمانة وحملها- وهي جميع ما في الوجود من المنافع- على السماوات والأرض والجبال، فأشفقن منها وحملها الإنسان الذي هو الإنس والجان، وأن نتجية العرض والأداء والحمل العذاب والثواب، فعلم أن الكل ملكه وفي ملكه، خائفون من عظمته مشفقون من قهر سطوته وقاهر جبروته، وأنه المالك التام المُلك والمِلك المطاع المتصرف في كل شيء من غير دفاع، وختم ذلك بصفتي المغفرة والرحمة، دل على ذلك كله بأن ابتدأ هذه قوله: {الحمد} أي الإحاطة بأوصاف الكمال من الخلق والأمر كله مطلقًا في الأولى الأخرى وغيرهما مما يمكن أن يكون ويحيط به علمه سبحانه {لله} ذي الجلال والجمال.
ولما كان هذا هو المراد، وصفه بما يفيد ذلك، فقال منبهًا على نعمة الإبداء والإبقاء أولًا: {الذي له} أي وحده مِلكًا ومُلكًا وإن نسبتم إلى غيره ملكًا وملكًا ظاهريًا {ما في السموات} أي بأسرها {وما في الأرض} أي كما ترون أنه لا متصرف في شيء من ذلك كمال التصرف غيره، وقد علم في غير موضع وتقرر في كل فطرة أنه ذو العرش العظيم، فأنتج ذلك أن له ما يحويه عرشه من السماوات والأراضي وما فيها، لأن من المعلوم أن العرش محيط بالكل، فالكل فيه، وكل سماء في التي فوقها، وكذا الأراضي، وقد تقرر أن له ما في الكل، فأنتج ذلك أن له الكل بهذا البرهان الصحيح، وهو أبلغ مما لو عبر عن ذلك على وجه التصريح، وإذ قد كان له ذلك كله فلا نعمة على شيء إلا منه، فكل شيء يحمده لما له عليه من نعمه بلسان قال، فإن لم يكن فبلسان حاله.
ولما أفاد ذلك أن له الدنيا وما فيها، وقد علم في آخر الأحزاب أن نتيجة الوجود العذاب والمغفرة، ونحن نرى أكثر الظلمة والمنافقين يموتون من غير عذاب، وأكثر المؤمنين يموتون لم يوفوا ما وعدوه من الثواب، ونعلم قطعًا أنه لا يجوز على حكيم أن يترك عبيده سدى يبغي بعضهم على بعض وهو لا يغير عليهم، فأفاد ذلك أن له دارًا أخرى يظهر فيها العدل وينشر الكرم والفضل، فلذلك قال عاطفًا على ما يسببه الكلام الأول من نحو: فله الحمد في الأولى، وطواه لأجل خفائه على أكثر الخلق، وأظهر ما في الآخرة لظهوره لأنها دار كشف الغطاء، فقال منبهًا على نعمة الإعادة والإبقاء ثانيًا: {وله} أي وحده {الحمد} أي الإحاطة بالكمال {في الآخرة} ظاهرًا لكل من يجمعه الحشر، وله كل ما فيها، لا يدعي ذلك أحد في شيء منه لا ظاهرًا ولا باطنًا، فكل شيء فيها لظهور الحمد إذ ذاك بحمده كما ينبغي لجلاله بما له عليه من نعمة أقلها نعمة الإيجاد حتى أهل النار فإنهم يحمدونه بما يحبب إليهم في الدنيا من إسباغ نعمه ظاهرة وباطنة، ومنها إنزال الكتب وإرسال الرسل على وجه ما أبقى فيه للتحبب موضعًا في دعائهم إليه وإقبالهم عليه، وبذل النصيحة على وجوه من اللطف كما هو معروف عند من عاناه، فعلموا أنهم هم المفرطون حيث أبوا في الأولى حيث ينفع الإيمان، واعترفوا في الآخرة حيث فات الأوان {وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش} الآيات، وأيضًا فهم يحمدونه في الآخرة لعلمهم أنه لا يعذب أحدًا منهم فوق ما يستحق وهو قادر على ذلك، ولذلك جعل النار طبقات، ورتبها دركات، فكانوا في الأولى حامدين على غير وجهه، فلم ينفعهم حمدهم لبنائه على غير أساس، وحمدوا في الآخرة على وجهه فما أغنى عنهم لكونها ليست دار العمل لفوات شرطه، وهو الإيمان بالغيب، والآية من الاحتباك: حذف أولًا له الحمد في الأولى لما دل عليه ثانيًا، وثانيًا وله كل ما في الآخرة لما دل عليه أولًا، وقد علم بهذا وبما قدمته في النحل والفاتحة أن الحمد تارة يكون بالنظر إلى الحامد، وتارة بالنظر إلى المحمود، فالثاني اتصاف المحمود بالجميل، والأول وصف الحامد له بالجميل، فحمد الله تعالى اتصافه بكل وصف جميل، وحمد الحامد له وصفه بذلك، فكل الأكوان ناطقة بألسن أحوالها بحمده سواء أنطق لسان القال بذلك أم لا، وهو محمود قبل تكوينها، وذلك هو معنى قولي الإحاطة بأوصاف الكمال، وحمد غيره له تارة يطلق بالمدلول اللغوي، وتارة بالمدلول العرفي، وتحقيق ما قال العلماء في ذلك في نفسه وبالنسبة بينه وبين الشكر أن الحمد في اللغة هو الوصف بالجميل الاختياري على جهة التعظيم، ومورده اللسان وحده فهو مختص بالظاهر ومتعلقه النعمة وغيرها، فمورده خاص ومتعلقه عام، والشكر لغة على العكس من ذلك متعلقه خاص ومورده عام، لأنه فعل يشعر بتعظيم المنعم بسبب إنعامه فمورده الظاهر والباطن لأنه يعم اللسان والجنان والأركان، ومتعلقه النعمة الواصلة إلى الشاكر، ومن موارده القلب وهو أشرف الموارد كلها، لأنه فعله وإن كان خفيًا يستقل بكونه شكرًا من غير أن ينضم إليه فعل غيره بخلاف الموردين الآخرين، إذ لا يكون فعل شيء منهما حمدًا ولا شكرًا حقيقة ما لم ينضم إليه فعل القلب.
ولما كان تعاكس الموردين والمتعلقين ظاهر الدلالة على النسبة بين الحمد والشكر اللغويين، علم أن بينهما عمومًا وخصوصًا وجهيًا، لأن الحمد قد يترتب على الفضائل المجردة، والشكر قد يختص بالفواضل، فينفرد الحمد من هذه الجهة، وينفرد الشكر بالفعل الظاهر والاعتقاد الباطن على الفواضل من غير قول، ويجتمعان في الوصف الجناني واللساني على الفواضل، ففعل القلب اعتقاد اتصاف المشكور بصفات الكمال من الجلال والجمال، وفعل اللسان ذكر ما يدل على ذلك، وفعل الأركان الإتيان بأفعال دالة على ذلك.
ولما كان هذا حقيقة الحمد والشكر لغة لا عرفًا، وكانت الأوهام تسبق إلى أن الحمد ما يشتمل على لفظ ح م د، قال القطب الرازي في شرح المطالع: وليس الحمد عبارة عن خصوص قول القائل {الحمد لله} وإن كان هذا القول فردًا من أفراد الماهية، وكذا ليس ماهية الشكر عبارة عن خصوص قول القائل {الشكر لله} ولا القول المطلق الدال على تعظيم الله وإن كان الثاني جزءًا منه والأول فرد من هذا الجزء، وحقيقة الحمد في العرف ما يشعر بتعظيم المنعم بسبب كونه منعمًا، وحقيقة الشكر العرفي هو صرف العبد جميع ما أنعم الله عليه من القوى إلى ما خلق له كصرف النظر إلى مطالعة مصنوعاته للاعتبار إلى عليّ حضراته، وإلقاء السمع إلى تلقي ما ينبىء عن مرضاته، والاجتناب عن منهياته، فذكر الوصف في اللغوي يفهم الكلام سواء كان نفسائيًا أو لسانيًا فيشمل حمد الله تعالى نفسه وحمدنا له، والجميل متناول للأنعام وغيره من مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، وعدم تقييد الوصف بكونه في مقابلة نعمه مظهر لأن الحمد قد يكون واقعًا بإزاء النعمة وقد لا يكون، واشتراط التعظيم يفهم تطابق الظاهر والباطن، فإن عرى قول اللسان عن مطابقة الاعتقاد أو خالفه فعل الجوارح لم يكن حمدًا حقيقة، بل استهزاء وسخرية، ومطابقة الجنان والأركان شرط في الحمد لا شطر، فلا يتداخل التعريفان، ولا يخرج بالاختيار صفات الله القديمة، فإنها من حيث قدرته على تعليقها بالأشياء تكون داخلة فيكون الحمد على الوصف الاختياري، وكذا إذا مدح الشجاع بشجاعته والقدرة على تعليق الوصف بما يتحقق به كانت الشجاعة خاصة لم يكن هناك محمود عليه، فقد علم من هذا أنه إذا كان هناك اختيار في الآثار كان الحمد عليه وإلا فلا، فلا يسمى وصف اللؤلؤة بصفاء الجوهر وبهجة المنظر حمدًا بل مدحًا، ويسمى الوصف بالشجاعة للاختيار في إظهار آثارها حمدًا، فاختص الحمد بالفاعل المختار دون المدح، وعلم أيضًا أن القول المخصوص وهو {الحمد لله} ليس حمدًا لخصوصه، بل لأند دال على صفة الكمال ومظهر لها، فيشاركه في التسمية كل ما دل على ذلك من الوصف، ولذلك قال بعض المحققين من الصوفية: حقيقة الحمد إظهار الصفات الكمالية، وذلك قد يكون بالقول كما عرف، وقد يكون بالفعل وهو أقوى، لأن الأفعال التي هي آثار الأوصاف تدل عليها دلالة عقلية قطعية، لا يتصور فيها خلف بخلاف الأقوال، فإن دلالتها عليها وضعية، وقد يتخلف عنها مدلولها، وقد حمد الله تعالى نفسه بما يقطع به من القول والفعل، ما الفعل فإنه بسط بساط الوجود على ممكنات لا تحصى ووضع عليه موائد كرمه التي لا تتناهى، فكشف ذلك عن صفات كماله وأظهرها بدلالات قطعية تفصيلية غير متناهية، فإن كل ذرة من ذرات الوجود تدل عليها، ولا يتصور في عبارات المخلوق مثل هذه الدلالات، ومن ثمة قال صلى الله عليه وسلم: «لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» ولابد للتنبه لما قاله الأستاذ أبو الحسن التجيبي المغربي الحرالي في تفسيره بأن حمدلة الفاتحة تتضمن من حيث ظاهرها المدح التام الكامل ممن يرى المدحة سارية في كل ما أبدعه الله وما أحكمه من الأسباب التي احتواها الكون كله، وعلم أن كلتا يدى ربه يمين مباركة، وهو معنى ما يظهره إحاطة العلم بإبداء الله حكمته على وجه لا نكرة فيه منه، ولا ممن هو في أمره خليفته، وليس من معنى ما بين العبد وربه من وجه إسداء النعم وهو أمر يجده القلب علمًا، لا أمر يوافق النفس غرضًا، فمن لم يكمل بعلم ذلك تاليًا على أثر من علمه، واجدًا بركة تلاوته- انتهى.